الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فصــل وأما بيع المقاثي كالبطيخ والخيار والقثاء ونحو ذلك، فإنه وإن كان من العلماء في مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد من قال: لا يباع إلا لقطة لقطة، جعلا لذلك من باب بيع الثمر قبل بدو صلاحه. والصحيح أنه يجوز بيعها بعروقها جملة، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب الشافعي، وأحمد، وهو مذهب مالك وغيره، لكن هذا القول له مأخذان. أحدهما: أن العروق كأصول الشجر. فبيع الخضروات بعروقها قبل بدو صلاحها كبيع الشجر بثمره قبل بدو صلاحه يجوز تبعا. وهذا مأخذ طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وإن كان هذا على خلاف أصوله. والمأخذ الثاني ـ وهو الصحيح: أن هذه لم تدخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم، بل تصح مع العروق الذي هو اللقطة / الموجودة، واللقطة المعدومة إلى أن تيبس المقثاة، وإن كانت تلك معدومة لم توجد؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك، ولا يمكن بيعها إلا كذلك، وبيعها لقطة لقطة متعذر أو متعسر، لعدم التمييز، وكلاهما منتف شرعاً، والشريعة استقرت على أن ما يحتاج إلى بيعه يجوز بيعه، وإن كان معدوما؛ كالمنافع، وأجر الثمر الذي لم يبد صلاحه مع الأصل، والذي بدا صلاحه مطلقا. وأيضا، فإنهم يقولون: هذه معلومة في العرف والعادة، كالعلم بالثمار، وتلفها بعد ذلك كتلف الثمار بالجائحة، وتلف منافع الإجارة من جنسه. وثبت بالنص أن الجوائح توضع بلا محذور في ذلك أصلا، بل المنع من بيع ذلك من الفساد، واللّه لا يحب الفساد. وإن كان بيع ذلك قد يفضي إلى نوع من الفساد، فالفساد في تحريم ذلك أعظم، فيجب دفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما؛ إذ ذلك قاعدة مستقرة في الشريعة.
فأجاب: أما بيع القصب ونحوه سواء بيع على أن يقلع، أو يقطع من مكان معروف في العادة، وإن كان مغطي بورقه، فإن هذا الغطاء /لا يمنع صحة البيع، كبيع الحب في سنبله، وكبيع الجوز واللوز في قشريه؛ فإن بيع جميع هذا جائز عند جماهير المسلمين الأولين والآخرين؛ كأبي حنيفة ومالك وأحمد، وقول في مذهب الشافعي، وهو عمل المسلمين من زمن نبيهم، إلى هذا الزمان، في جميع الأعصار والأمصار. وقد دل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتي يشـتد، وعن بيع العنب حتي يسود. فإن هذا يدل على جواز بيعه بعد اشتداده، كما دل نهيه عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها على جواز البيع بعد بدو الصلاح. وأيضا، فإن هذا ليس من بيع الغَرَر، فإنه معلوم في العادة. وأما بيع الجزر واللفت والفجل والقلقاس، ونحو ذلك، ففيه قولان مشهوران: أحدهما: لا يجوز حتي يقلع، بناء على أنه مغيب لم ير ولم يوصف؛ كسائر الأعيان الغائبة التي لم تر، ولم توصف. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي والمشهور من مذهب أحمد. والثاني: أنه يجوز بيعه إذا رأي ما ظهر منه على الوجه المعروف، وهذا قول مالك، وقول في مذهب أحمد. وهذا أصح القولين، وعليه عمل المسلمين قديما وحديثا، ولا تتم مصلحة الناس إلا بهذا؛ فإن تأخير بيعه إلى حين قلعه، يتعذر تارة ويتعسر أخري، ويفضي إلى / فساد الأموال. وأما كون ذلك مغيبًا فيكون غررًا، فليس كذلك، بل إذا رؤي من المبيع ما يدل على ما لم ير جاز البيع باتفاق المسلمين؛ في مثل بيع العقار، والحيوان. وكذلك ما يحصل الحرج بمعرفة جميعه يكتفي برؤية ما يمكن منه، كما في بيع الحيطان. وما مأكوله في جوفه والحيوان الحامل، وغير ذلك، فالصواب جواز بيع مثل هذا. واللّه أعلم.
فأجاب: أما بيع المغروس في الأرض الذي يظهر ورقه؛ كاللفت، والجزر، والقلقاس، والفجل والثوم، والبصل، وشبه ذلك ففيه قولان للعلماء: أحدهما: أنه لا يجوز، كما هو المشهور عن أصحاب الشافعي، وأحمد وغيرهما. قالوا: لأن هذه أعيان غائبة لم تر ولم توصف، فلا يجوز بيعها كغيرها من الأعيان الغائبة، وذلك داخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم / عن بيع الغرر . والثاني: أن بيع ذلك جائز. كما يقوله من يقوله من أصحاب مالك، وغيره، وهو قول في مذهب أحمد وغيره، وهذا القول هو الصواب لوجوه. منها: أن هذا ليس من الغرر، بل أهل الخبرة يستدلون بما يظهر من الورق على المغيب في الأرض، كما يستدلون بما يظهر من العقار من ظواهره على بواطنه، وكما يستدلون بما يظهر من الحيوان على بواطنه.ومن سأل أهل الخبرة أخبروه بذلك،والمرجع في ذلك اليهم. والثاني: أن العلم في جميع المبيع يشترط في كل شيء بحسبه، فما ظهر بعضه وخفي بعضه، وكان في إظهار باطنه مشقة وحرج، اكتفي بظاهره؛ كالعقار، فإنه لا يشترط رؤية أساسه، ودواخل الحيطان، وكذلك الحيوان، وكذلك أمثال ذلك. الثالث: أنه ما احتيج إلى بيعه فإنه يوسع فيه ما لا يوسع في غيره؛ فيبيحه الشارع للحاجة مع قيام السبب الخاص، كما أرخص في بيع العرايا بخرصها، وأقام الخرص مقام الكيل عند الحاجة، ولم يجعل ذلك من المزابنة التي نهى عنها؛ فإن المزابنة بيع المال بجنسه مجازفة إذا كان/ ربويا بالاتفاق، وإن كان غير ربوي فعلى قولين، وكذلك رخص النبي صلى الله عليه وسلم في ابتياع الثمر بعد بدو صلاحه بشرط التبقية، مع أن إتمام الثمر لم يخلق بعد، ولم ير. فجعل ما لم يوجد ولم يخلق ولم يعلم تابعا لذلك، والناس محتاجون إلى بيع هذه النباتات في الأرض. ومما يشبه ذلك بيع المقاثي؛ كمقاثي البطيخ والخيار والقثاء، وغير ذلك، فمن أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما من يقول: لا يجوز بيعها إلا لقطة لقطة. وكثير من العلماء من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما قالوا: إنه يجوز بيعها مطلقا على الوجه المعتاد، وهذا هو الصواب؛ فإن بيعها لا يمكن في العادة إلا على هذا الوجه، وبيعها لقطة لقطة إما متعذر، وإما متعسر؛ فإنه لا يتميز لقطة عن لقطة؛ إذ كثير من ذلك لا يمكن التقاطه، ويمكن تأخيره. فبيع المقثاة بعد ظهور صلاحها كبيع ثمرة البستان بعد بدو صلاحها، وإن كان بعض المبيع لم يخلق بعد ولم ير؛ ولهذا إذا بدا صلاح بعض الشجرة كان صلاحا لباقيها باتفاق العلماء، ويكون صلاحها صلاحا لسائر ما في البستان من ذلك النوع في أظهر قولي العلماء. وقول جمهورهم: بل يكون صلاحًا لجميع ثمرة البستان التي جرت العادة بأن يباع جملة في أحد قولي العلماء. وهذه المسائل وغيرها مما ذكرنا في هذا الجواب مبسوطة في غير هذا الموضع. / فأجاب: الحمد للّه رب العالمين، أما بيع قصب السكر فلا شبهة فيه، إلا ما يذكر من كونه في قشره الذي يكون صونًا له، فبيعه كبيع الجوز واللوز والباقلا في قشريه، وبيع ذلك جائز عند جماهير علماء المسلمين، وهو قول سلف الأمة، وعملها المتصل من لدن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى هذا الزمان، ولا تتم مصلحة الناس إلا بذلك، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل، وقول في مذهب الشافعي، فإنه لما مرض أمر أن يشتري له باقلا أخضر، وذلك في مرض موته، فهو متأخر عن نهيه الذي في كتبه. وقد دل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتي يسود، وعن بيع الحب حتي يشتد. وذلك يدل على جواز بيع ذلك بعد اسوداده واشتداده، فيدل على جواز بيع الحب في سنبله،/ وهو من صور النزاع كالباقلا في قشريه. والذي كره بيع ذلك يظنه من الغرر الذي نهى عنه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وليس الأمر كذلك؛ لوجهين: أحدهما: أن المشترين يعلمون ذلك كما يعلمون كثيرًا من المبيعات المتفق على جواز بيعها، بل علمهم بذلك أقوي من علمهم بكثير منها. والثاني: أنه لو فرض أن في ذلك جهلا فالشـريعة استقرت على ما يحتاج إلى بيعه مع الغرر؛ ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم في بيع الثمار بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح. ثم إنه بعد ذلك أمر بوضع الجوائح إذا أصابتها. وأيضا، فإنه أذن في بيع العقار بقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له شرك في أرض، أو ربعة، أو حائط، فلا يحل له أن يبيع حتي يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك). وقد أجمع المسلمون على جواز بيع العقار مع أن أساس الحيطان، وداخلها مغيب. وكذلك أذن في بيع الثمار قبل بدو صلاحها تبعا للأصل، بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (من باع نخلا مؤبرًا، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع)، وذلك أن بيع الغرر نهى عنه لما فيه من الميسر، والقمار، المتضمن لأكل المال بالباطل. فإذا / كان في بعض الصور من فوات الأموال وفسادها ونقصها على أصحابها بتحريم البيع أعظم مما فيها مع حله لم يجز دفع الفساد القليل بالتزام الفساد الكثير، بل الواجب ما جاءت به الشريعة، وهو تحصيل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما. والفتيا لا تحتمل البسط أكثر من هذا.
فصــل وأما بيع القلقاس والجزر واللفت ونحو ذلك، فهو جائز عند طوائف من أهل العلم، وهو مذهب مالك، وقول في مذهب الإمام أحمد، وإن كان المشهور عنه ـ كمذهب أبي حنيفة والشافعي ـ أنه لا يجوز. والقول الأول هو الصواب؛ فإن الأصل المتفق عليه بين العلماء في ذلك كون المبيع معلومًا العلم المعتبر في المبيع، فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر يرجع في ذلك إلى أهل الخبرة بذلك. وأهل الخبرة يقولون: إنهم يعلمون ذلك في حال كونه في الأرض، بحيث يخرج عن كونه غررًا، ويستدلون على ذلك بما يقلعونه منه، كما يعلم/المبيع المنفصل عن الأرض برؤية بعضه إذا كان متشابه الأجزاء. ثم إن ظهر الخفي دون الظاهر بما لم تجر به العادة، كان ذلك إما غَبنًا، وإما تدليسا، بل أهل الخبرة يقولون: إنهم يعلمون ذلك أكثر مما يعلمون كثيرًا من المنفصل. وكون المبيع معلوما أو غير معلوم لا يؤخذ عن الفقهاء بخصوصهم، بل يؤخذ عن أهل الخبرة بذلك الشيء، وإنما المأخوذ عنهم ما انفردوا به من معرفة الأحكام بأدلتها. وقد قال اللّه تعالى: / فأجاب: ما تلف من ذلك فهو من ضمان البائع، سواء كان البيع صحيحًا أو فاسدًا، كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك من ثمنها شيء، بم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ ).
فأجاب: وأما السلم في الزيتون وأمثاله من المكيلات والموزونات فيجوز، وما علمت بين الأئمة في ذلك نزاعا،ولكن النزاع فيما إذا أسلم في غير المكيل والموزون، كالحيوان ونحوه. وفيه عن أحمد روايتان أشهرهما جواز ذلك، وهو قـول مالك والشافعي. والثانية: لا يجوز كقول أبي حنيفة.
فأجاب: أما السلف فإنه جائز بالإجماع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أسف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم،/ إلى أجل معلوم). وأما إذا قوم السلعة بقيمة حالة، وباعها إلى أجل بأكثر من ذلك، فهذا منهي عنه في أصح قولي العلماء، كما قال ابن عباس: إذا استقمت بنقد، ثم بعت بنقد، فلا بأس، وإذا استقمت بنقد، ثم بعت بنسيئة، فتلك دراهم بدراهم. ومعني قوله: استقمت: أي قومت، واللّه أعلم.
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، إذا كان المشتري يشتريها لينتفع بها، أو يتجر بها ـ لا يشتريها ليبيعها، ويأخذ ثمنها لحاجته اليه ـ فلا بأس بذلك، لكن ينبغي إذا كان المشتري محتاجًا أن يربح عليه الربح الذي جرت به العادة. والله أعلم.
فأجاب: يجوز بيع شاة بشاة إلى أجل. / فأجاب: هذه المسألة مبنية على أصلين: أحدهما: أن هذا المنعقد من الدخان، هل هو طاهر أو نجس؟ في ذلك تفصيل ونزاع. وإن كان الوقود طاهرًا؛ كوقود الأفران، وكالوقود الطاهر للحمام، فذلك المنعقد طاهر، وإن كان الوقود بنجاسة فهل يكون هذا المنعقد طاهرًا ؟ على قولين للعلماء. وكذلك في كل نجاسة استحالت؛ كالرمـاد، والقصرمل والجرسيف، ونحو ذلك، وإن كان مستحيلا عن نجاسة فهذا نجس في مذهب الشافعي، وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وهو ظاهر في مذهب أبي حنيفة. والقول الآخر في مذهب مالك وأحمد: أنه طاهر وهذا القول/ أقوي في دلالة الكتاب والسنة، والقياس؛ فإنهم اتفقوا على أن الخمر إذا انقلبت خلا بفعل اللّه تعالى كانت طاهرة، وهذا لم يتناوله لفظ التحريم، ولا معناه، فلا يكون محرمًا نجسًا. فمن قال: إنه طاهر، جوز بيعه، ومنهم من يجوز بيعه مع نجاسته، والخلاف فيه مشهور في [مسألة السرجين النجس] . والأصل الثاني: أنه إذا جاز بيعه، فلا يقال: يباع على الوجه المشروع، ولا ريب أنه يجوز السلف فيه، وليس السؤال عن بيعه معينًا حتي يشترط الرؤية ونحوها، لكن إذا أسلف فيه، فلابد أن يسلف في قدر معلوم، إلى أجل معلوم، وأن يقبض رأس المال في المجلس، وغير ذلك من شروط السلم. فإذا كانـوا قد أظهروا صورة السلم،وكان المسلم يقبض ما تحصل،وهو المقصود في الباطن، سواء كان أكثر من المقدار،أو أقل،فهذا عقد باطل، يجب النهي عنه، ومنع فاعله.
فأجاب: المشتري على ثلاثة أنواع: أحدها: أن يكون مقصوده السلعة ينتفـع بها للأكل والشرب واللبس والركوب، وغير ذلك. والثاني: أن يكون مقصوده التجارة فيها، فهذان نوعان جائزان بالكتاب والسنة والإجماع، كما قال تعالى: النوع الثالث: أن يكون المشتري إنما يريد به دراهم مثلا ليوفي بها دينًا، واشتري بها شيئًا فيتفقان على أن يعطيه مثـلا المائة بمائة وعشرين إلى أجل، فهذا كله منهي عنه، فإن اتفقا على أن يعيد / السلعة اليه، فهو بيعتان في بيعة. وإن أدخلا ثالثا يشتري منه السلعة، ثم تعاد اليه، فكذلك وإن باعه وأقرضه فكذلك، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان المشتري يأخذ السلعة فيبيعها في موضع آخر، يشتريها بمائة، ويبيعها بسبعين لأجل الحاجة إلى دراهم. فهذه تسمي: [مسألة التورق] ، وفيها نزاع بين العلماء، والأقوي أيضًا أنه منهي عنها، وأنها أصل الربا، كما قال ذلك عمر بن عبد العزيز، وغيره. واللّه أعلم.
فأجاب: هذا يسمي [السـلم] و [السلف] ، ولا يجوز بيع هذا الدين الذي هو دين السلم، قبل قبضـه، لا من المستلف ولا من غيره، في مذهب الأئمة الأربعة، بل هذا يدخل فيما نهى عنـه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من بيع ما لم يقبض. وقد يدخل في ربح ما لم يضمن/ أيضا، وإذا وقـع هـذا البيـع، فهو فاسـد، ولا يستحق هـذا البائـع السـلف إلا دين السلم، دون مـا جعلـه عـوضـًا عنـه. وعليه أن يرد هذا العوض إن كان قبضه، ويطالب بدين السلم، فـإن تعذر ذلك مثـل أن يطـول الزمـان، أو لا يعـرف ذلك ونحو ذلك، فليأخـذ بقـدر ديـن السلم مـن تلك الأعواض، وليتصدق بالربح، فإنه إذا أخذ مثل دين السلم فقد أخذ قـدر حقـه مـن ذلك المال. والزيـادة ربـح ما لم يضمن، وهي لا تحل له، فليتصدق بها عن أصحابها، وإن كان لم يربح شيئا، وإنما باعه المستلف بسعره، لم يكن عليه إخراج ماله.
فأجاب: الحمد للّه، إن كان الذي يشتريه لينتفع به، أو يتجر به، فلا بأس ببيعه إلى أجل، لكن المحتاج لا يربح عليه إلا الربح المعتاد، لا يزيد عليه لأجل ضرورته. وإما إن كان محتاجا إلى دراهم، فاشتراه ليبيعه في الحال، ويأخذ ثمنه، فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء. / فأجاب: إن كان الذي يشتريها إلى أجل يشتريها ليتجر فيها، أو ينتفع بها، جاز للبائع أن يبيعها إن شاء بالنقد، وإن شاء إلى أجل. وإن كان المشتري مقصوده الدراهم، وهو يريد أن يبيعها إذا اشتراها، ويأخذ الدراهم، فهذا يسمي: [التورق] وهو مكروه في أظهر قولي العلماء. / فأجاب: الحمد للّه، هذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: لا يجوز الاعتياض عن دين السلم بغيره، كقول الشافعي وأبي حنيفة؛ لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)، وهذه الرواية هي المعروفة عند متأخري أصحاب الإمام أحمد، وهي التي ذكرها الخرقي وغيره. والقول الثاني: يجوز ذلك، كما يجوز في غير دين السلم، وفي المبيع من الأعيان، وهو مذهب مالك. وقد نص أحمد على هذا في غير موضع، وجعل دين السلم كغيره من المبيعات. فإذا أخذ عوضا غير مكيل، ولا موزون، بقدر دين السلم حين الاعتياض، لا بزيادة على ذلك، أو أخذ من نوعه بقدره؛ مثل أن يسلم في حنطة فيأخذ / شعيرا بقدر الحنطة، أو يسلم في حرير فيأخذ عنه عوضا من خيل، أو بقر، أو غنم، فإنه يجوز. وقد ذكر ذلك طائفة من الأصحاب ـ كابن أبي موسي، والسامري صاحب المستوعب ـ لكن في بعض الصور كما قال في [المستوعب] : ومن أسلم في شيء لم يجز أن يأخذ من غير جنسه بحال، في إحدى الروايتين، وفي الأخري يجوز، وأن يأخذ ما دون الحنطة من الحبوب؛ كالشعير ونحوه، بمقدار كيل الحنطة، لا أكثر منها ولا بقيمتها، نص عليه. قال في رواية أبي طالب: إذا أسلفت في كر حنطة، فأخذت شعيرا فلا بأس، وهو دون حقك، ولا تأخذ مكان الشعير حنطة. وأما المطلعون على نصوص أحمد، فذكروا ما هو أعم من ذلك، وأنه يجوز الاعتياض عن دين السلم بغير المكيل والموزون مطلقا، كما ذكر ذلك أبو حفص العكبري في مجموعه، ونقله عنه القاضي أبو يعلى بخطه، فإن كان ما أسلم فيه مما يكال أو يوزن، فأخذ من غير نوعه مثل كيله مما هو دونه في الجودة جاز. وكذلك إن أخذ قيمته مما لا يكال ولا يوزن، كيف شاء. نقل ابن القاسم عن أحمد: قلت لأبي عبد اللّه: إذا لم يجد ما أسلم فيه، ووجد غيره من جنسه يأخذه؟ قال: نعم، إذا كان دون الشيء الذي له. قلت: فإنما أسلم في قفيز حنطة موصلي، فقال: فيأخذ مكانه سلتي، أو قفيز شعير بكيلة واحدة، / لا يزداد، وإن كان فوقه فلا يأخذ، وذكر حديث ابن عباس، رواه طاوس عن ابن عباس: إذا أسلمت في شيء فجاء الأجل فلم تجد الذي أسلمت، فخذ عوضا بأنقص منه، ولا تربح مرتين. ونقل ـ أيضا ـ أحمد بن أصرم، سئل أحمد عن رجل أسلم في طعام إلى أجل، فإذا جاء الأجل يشتري منه عقارا، أو دارا. فقال: نعم، يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن. وقال حرب الكرماني: سألت أحمد، قلت: رجل أسلف رجلا دراهم في بر، فلما حل الأجل لم يكن عنده، فقال قوم: الشعير بالدراهم، فخذ من الشعير. قال: لا يأخذ منه الشعير إلا مثل كيل البر، أو أنقص. قلت: إذا كان البر عشرة أجربة، أيأخذ الشعير عشرة أجربة؟ قال: نعم. وكذلك نقل غير هؤلاء عن أحمد،وهذه الرواية أكثر في نصوص أحمد، وهي أشبه بأصوله، فإن علته في منع بيع دين السلم كونه مبيعًا فلا يباع قبل القبض. وأحمد في ظاهر مذهبه لا يمنع من البيع قبل القبض مطلقا، بل له فيه تفصيل، وأقوال معروفة. ولذلك فرق بين البيع من البائع وغيره. وكذلك مذهب مالك يجوز بيع المسلم فيه، إذا كان عوضا من بائعه بمثل ثمنه، وأقل. ولا يجوز بأكثر، ولا يجوز ذلك في الطعام. وقال ابن المنذر: ثبت أن ابن عباس قال: إذا أسلفت في شيء/ فحل الأجل، فإن وجدت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عوضا بأنقص منه. وهذا ابن عباس لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه. قال: ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام. وأما ما ذكره الشيخ أبو محمد في [مغنيه] . لما ذكر قول الخرقي: وبيع المسلم فيه من بائعه أو غيره قبل قبضه فاسد. قال أبو محمد: بيع المسلم قبل قبضه لا يعلم في تحريمه خلاف. فقال ـ رحمه اللّه ـ بحسب ما علمه، وإلا فمذهب مالك أنه يجوز بيعه من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه، وهذا ـ أيضا ـ إحدى الروايتين عن أحمد، نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهمـا منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته، وإن كان ذلك ليس في كتب كثير من متأخري أصحابه. وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد؛ وذلك لأن دين السلم مبيع، وقد تنازع العلماء في جواز بيع المبيع قبل قبضه، وبعد التمكن من قبضه، وفي ضمان ذلك، فالشافعي يمنعه مطلقا، ويقول: هو من ضمان البائع، وهو رواية ضعيفة عن أحمد. وأبو حنيفة يمنعه إلا في العقار، ويقول: هو من ضمان البائع. وهؤلاء يعللون المنع /بتوالي الضمانين. وأما مالك وأحمد في المشهور عنه وغيرهما فيقولون: ما تمكن المشتري من قبضه، وهو المتعين بالعقد ـ كالعبد والفرس ونحو ذلك ـ فهو من ضمان المشتري. على تفصيل لهم، ونزاع في بعض المتعينات؛ لما رواه أحمد وغيره عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أنه قال: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًا مجموعا، فهو من ضمان المشتري. فظاهر مذهب أحمد: أن الناقل للضمان إلى المشتري هو التمكن من القبض، لا نفس القبض، فظاهر مذهبه، أن جواز التصرف فيه ليس ملازما للضمان، ولا مبنيا عليه، بل قد يجوز التصرف فيه حيث يكون من ضمان البائع، كما ذكر في الثمرة، ومنافع الإجارة، وبالعكس، كما في الصبرة المعينة. وقد ذكر الخرقي في [مختصره] هذا وهذا، فقال: إذا اشتري الثمرة دون الأصل، فتلفت بجائحة من السماء، رجع بها على البائع. وقال الأصحاب: لا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض، بدليل المنافع في الإجارة، ثم قال الخرقي: وإذا وقع البيع على مكيل، أو موزون أو معدود، فتلف قبل قبضه، فهو من مال البائع، وهذا عند جمهور الأصحاب، ما بيع بالكيل والوزن والعدد سواء كان متعينا، أو غير متعين. ثم قال الخرقي: ومن اشتري ما يحتاج إلى قبضه، لم يجز بيعه / حتي يقبضه. ففرق بين ما يحتاج إلى القبض، وما لا يحتاج، فما لا يحتاج يكفي فيه التمكن؛ كالمودع. ثم قال: ومن اشتري صبرة طعام لم يبعها حتي ينقلها، فالصبرة مضمونة على المشتري بالتمكن، والتخلية، فلا يبيعها حتي ينقلها، وهذا كله منصوص أحمد، لكن في ذلك نزاع بين الأصحاب، وروايات ليس هذا موضعها. والمقصود هنا: أن في ظاهر مذهب أحمد قد يكون المبيع مضمونا على البائع، ويجوز للمشتري بيعه في ظاهر المذهب؛ كالثمر إذا بيع بعد بدو صلاحه، فإنه في مذهب مالك وأحمد من ضمان البائع، وهو قول معلق للشافعي، لما رواه مسلم في صحيحه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا بعت من أخيك ثمرة، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟!). ومـع هـذا، فيجوز في أصح الروايتين عن أحمد للمشتري أن يبيع هذا الثمر، مع أنه مـن ضمان البائع، وهذا كما يجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره بمثل الأجرة بلا نزاع. وإن كـانت المنافـع مضمـونة على البائع، ولكن إذا أجرها بزيـادة من غير إحداث زيادة، ففيه روايتان: إحداهما: يجوز كقول الشافعي. والثانية: لا يجوز، كقول /أبي حنيفة؛ لأنه ربح ما لم يضمن، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن. قال الترمذي: حديث صحيح. والقول الأول أصح؛ لأن المشتري لو عطل المكان الذي اكتراه وقبضه لتلفت منافعه من ضمانه، ولكن لو انهدمت الدار لتلفت من مال المؤجر. وهذه المسائل مبسوطة في موضعها. والمقصود هنا: أن أصل أحمد ومالك جواز التصرف، وأنه يوسع في البيع قبل انتقال الضمان إلى المشتري، بخلاف أبي حنيفة والشافعي، والرواية الأخري عن أحمد، فإن البيع لا يجوز على أصلهما، إلا إذا انتقل الضمان إلى المشتري، وصار المبيع مضمونا عليه. قالوا: لئلا يتوالى الضمانات؛ فإن المبيع يكون مضمونا قبل القبض على البائع الأول؛ فإذا بيع قبل أن يضمنه المشتري صار مضمونا عليه، فيتوالى عليه الضمانان. وعلى قول مالك وأحمد المشهور عنه: هذا مأخذ ضعيف، لا محذور فيه؛ فإن المبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه. كان على البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني. فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان هذا. وإذا عرف هذا، فعلى قول هؤلاء يمنع من بيع دين السلم؛ لأنه لم يضمنه المسلف، فإنه لا يضمنه إلا بالقبض فلا يبيع ما لم يضمن. وعلى / قول مالك وأحمد في المشهور عنه: يجوز ذلك، كما ثبت ذلك عن ابن عباس؛ ولكن لا يجوز بربح، بل لا يباع إلا بالقيمة؛ لئلا يربح المسلف فيما لا يضمن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن. والدليل على ذلك أن الثمن يجوز الاعتياض عنه قبل قبضه بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر: كنا نبيع الإبل بالنقيع ـ والنقيع بالنون: هو سوق المدينة. والبقيع بالباء هو مقبرتها. قال: ـ كنا نبيع بالذهب، ونقضي الورق، ونبيع بالورق، ونقضي الذهب. فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: (لا بأس إذا كان بسعر يومه، إذا تفرقتما وليس بينكما شيء). فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتاضوا عن الدين الذي هو الثمن بغيره، مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينتقل إلى ضمان البائع، فكذلك المبيع الذي هو دين السلم يجوز بيعه، وإن كان مضمونًا على البائع لم ينتقل إلى ضمان المشتري. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوز الاعتياض عنه إذا كان بسعر يومه؛ لئلا يربح فيما لم يضمن. وهكذا قد نص أحمد على ذلك في بدل القرض وغيره من الديون، إنما يعتاض عنه بسعر يومه؛ لئلا يكون ربحا فيما لا يضمن، وهكذا ذكر الإمام أحمد عن ابن عباس لما أجاب في السلم أن قال: إذا أسلمت/ في شيء فجاء الأجل، ولم تجد الذي أسلمت فيه فخذ عوضًا بأنقص منه، ولا تربح مرتين. وكذلك مذهب مالك يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه، كما أجاب به أحمد، ونقله عن ابن عباس. ومالك استثني الطعام؛ لأن من أصله أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز، وهي رواية عن أحمد، وأحمد فرق بين أن يبيع المكيل والموزون بمكيل وموزون، أو غير ذلك. فإن باعه بغير ذلك، مثل أن يعتاض عن المكيل والموزون كالحنطة والشعير الذي أسلم فيه بخيل أو بقر، فإنه جوز هذا، كما جوزه مالك، وقبلهما ابن عباس، إذا كان بسعر يومه. وأما إذا اعتاض عنه بمكيل أو موزون، مثل أن يعتاض عن الحنطة بشعير كرهه، إلا إذا كان بقدره؛ فإن بيع المكيل بالمكيل، والموزون بالموزون، يشترط فيه الحلول والتقابض؛ ولهذا لا يجوز بيع الحنطة بالشعير إلا يدًا بيد،ولا بيع الذهب بالفضة إلا يدًا بيد. والمسلم لم يقبض دين المسلم، فكره هذا، كما يكره هو في إحدى الروايتين، والشافعي في أحد القولين: بيع الدين ممن هو عليه مطلقًا، على أنه باع ما لم يضمنه، ولم يقبضه. والصواب الذي عليه جمهور العلماء ـ وهو ظاهر مذهب الشافعي،/ وأحمد ـ: أنه يجوز بيع الدين ممن هو عليه؛ لأن ما في الذمة مقبوض للمدين، لكن إن باعه بما لا يباع به نسيئة اشترط فيه الحلول والقبض؛ لئلا يكون ربا. وكذلك إذا باعه بموصوف في الذمة. وإن باعه بغيرهما ففيه وجهان: أحدهما: لا يشترط كما لا يشترط في غيرهما. والثاني: يشترط؛ لأن تأخير القبض نسيئة، كبيع الدين بالدين، ومالك لم يجوز بيع دين السلم إذا كان طعامًا؛ لأنه بيع. وأحمد جوز بيعه، وإن كان طعامًا أو مكيلا، أو موزونًا من بائعه، إذا باعه بغير مكيل أو موزون؛ لأن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه هو في الطعام المعين، وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء. وفائدته سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملك له، فلا يقاس هذا بهذا. فإن البيع المعروف هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهنا لم يملك شيئًا، بل سقط الدين من ذمته. وهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه، بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بدراهم معينة؛ فإنه بيع. فلما كان في الأعيان إذا باعها بجنسها لم يكن بيعا، فكذلك إذا أوفاها من غير جنسها لم يكن بيعا، بل هو إيفاء فيه معني المعاوضة. / ولهذا لو حلف ليقضينه حقه في غد، فأعطاه عوضاً بر في يمينه في أصح الوجهين، فنهيه عن بيع الطعام قبل قبضه يريد به بيعه من غير البائع، فيه نزاع. وذلك أن من علله بتوالى الضمان يطرد النهي، وأما من علل النهي بتمام الاستيفاء، وانقطاع علق البائع حتي لا يطمع في الفسخ، والامتناع من الإقباض، إذا رأي المشتري قد ربح فيه، فهو يعلل بذلك في الصبرة قبل نقلها، وإن كانت مقبوضة، وهذه العلة منتفية في بيعه من البائع. وأيضا، فبيعه من البائع يشبه الإقالة، وفي أحد قولي العلماء تجوز الإقالة فيه قبل القبض. والإقالة هل هي فسخ أو بيع؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، فإذا قلنا: هي فسخ لم يجز إلا بمثل الثمن. وإذا قلنا هي بيع، ففيه وجهان ودين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع. فعلم أن الأمر في دين السلم أخف منه في بيع الأعيان، حيث كان الأكثرون لا يجوزون بيع المبيع لبائعه قبل التمكن من قبضه، ويجوزون الإقالة في دين السلم. والاعتياض عنه يجوز كما تجوز الإقالة، لكن إنما يكون إقالة إذا أخذ رأس ماله أو مثله، وإن كان مع زيادة، أما إذا باعه بغير ذلك فليس إقالة، بل هو استيفاء في معني البيع لما لم يقبض. وأحمد جوز بيع دين السلم من المستسلف؛ اتباعا لابن عباس، وابن/ عباس يقول: نهي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه. ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام. فابن عباس لا يجوز البيع قبل القبض، وجوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح. ولم يفرق ابن عباس بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما؛ لأن البيع هنا من البائع الذي هو عليه، وهو الذي يقبضه من نفسه لنفسه، بل ليس هنا قبض؛ لكن يسقط عنه ما في ذمته، فلا فائدة في أخذه منه ثم إعادته اليه، وهذا من فقه ابن عباس. ومالك جعل هذا بمنزلة بيع المعين من الأجنبي، فمنع بيع الطعام المسلف فيه من المستلف، وأحمد لم يجعله كبيع الطعام قبل القبض من الأجنبي، كما قال مالك، بل جوزه بغير المكيل والموزون، كما أجازه ابن عباس. وأما بالمكيل والموزون، فكرهه؛ لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض إذا كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين. وأما إذا أخذ عنه من جنسه بقدر مكيله ما هو دونه فجوزه؛ لأن هذا من الاستيفاء من الجنس، لا من باب البيع، كما يستوفي عن الجيد بالرديء. والحنطة والشعير قد يجريان مجري الجنس الواحد؛ ولهذا في جواز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا روايتان: إحداهما: المنع، كقول مالك. / والثانية: الجواز؛ كقول أبي حنيفة، والشافعي. وهذه الكراهة من أحمد في المكيل والموزون بمكيل أو موزون؛ قد يقال هي على سبيل التنزيه، أو يكون إذا أخر القبض. وهذا الثاني أشبه بأصول أحمد ونصوصه، وهو موجب الدليل الشرعي؛ وذلك أنه إذا باع المكيل بمكيل أو الموزون بموزون اشترط فيه الحلول والتقابض. فإن باع أحدهما بالآخر فعنه في ذلك روايتان. وهذا بناء على أن العلة في الأصناف الستة هي التماثل، وهو مكيل جنس، أو موزون جنس. فإن العلماء متفقون على أن بيع الذهب بالفضة نسيئة لا يجوز، وكذلك بيع البر والتمر. والشعير والملح بعضه ببعض نسأ لا يجوز. فمن جعل العلة التماثل ـ وهو الكيل والوزن أو الطعم أو مجموعهما ـ حرم النسأ فيما جمعهما علة واحدة. وهذه الأقوال هي روايات عن أحمد. فالتماثل وهو مكيل جنس، أو موزون جنس: هو المشهور عنه، وهو مذهب أبي حنيفة. والطعم: وهو مذهب الشافعي. ومجموعهما قول ابن المسيب وغيره. وأحد قولي الشافعي، وهو اختيار الشيخ أبي محمد المقدسي. ومذهب مالك قريب من هذا، وهو القوت، وما يصلحه. وإذا كان كذلك، فدين السلم وغيره من الديون إذا عوض عنه بمكيل وجب قبضه في مجلس التعويض. وكذلك الموزون إذا عوض/ عنه بموزون؛ مثل أن يعوض عن الحرير بقطن أو كتان. فإذا بيع المكيل بالمكيل بيعا مطلقا بحيث لا يقبض العوض في المجلس لم يجز؛ بخلاف ما إذا بيع بحيوان أو عقار؛ فإن هذا لا يشترط قبضه في المجلس في أصح الوجهين، وهو المنصوص عنه. فكلام أحمد يخرج على هذا. ونهيه عن البيع يحمل على هذا؛ ولهذا قال: إذا حل الأجل يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن. فأطلق الإذن في ذلك؛ بخلاف الميكل والموزون، فإنه لا يشتري مطلقاً، بل يقبض في المجلس، كما إذا بيع بعين. يدل على ذلك أن أحمد اتبع قول ابن عباس في ذلك. وابن عباس قال: إذا أسلمت في شيء فجاء الأجل ولم تجد الذي أسلمت فيه، فخذ عوضاً بأنقص، ولا تربح مرتين. فإنما نهاه عن الربح فيه؛ بأن يبيعه دين السلم بأكثر مما يساوي وقت الاستيفاء؛ ولهذا أحمد منع إذا استوفى عنه مكيلا ـ كالشعير ـ أن يكون بزيادة. ولم يفرق ابن عباس بين أن يبيعه بمكيل أو موزون، وبين أن يبيعه بغيرهما. وليس هذا من ربا الفضل، فيقال: إن ابن عباس يجيز ربا الفضل، بل بيع الذهب بالفضة إلى أجل حرام بإجماع المسلمين، وكذلك بيع الحنطة بالشعير إلى أجل. وهذا قياس مذهب أحمد وغيره، فإن ما في الذمة مقبوض، فإذا كان مكيلاً أو موزونًا وباعه بمكيل أو موزون ولم يقبضه فقد باع مكيلاً بمكيل ولم يقبضه، وأما إذا قبضه فهذا جائز. / وقد ثبت في مذهب أحمد أنه إذا باع بذهب جاز أن يأخذ عنه ورقا، وإذا باع بورق جاز أن يأخذ عنه ذهباً في المجلس، كما في حديث ابن عمر، وهذا أَخْذ عن الموزون بالموزون. فإذا جاز ذلك في الثمن جاز في المثمن، ليس بينهما فرق، إلا على قول من يقول: هذا مبيع لم يقبض، فلا يجوز بيعه. وقد ظهر فساد هذا المأخذ في السلم. وابن عباس الذي منع هذا جوز هذا، وأن بيع دين السلم من بائعه ليس فيه محذور أصلا، كما في بيعه من غير بائعه، لا بتوالى الضمان، ولا غير ذلك. وأما احتجاج من منع بيع دين السلم بقوله صلى الله عليه وسلم : (من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)، فعنه جوابان: أحدهما: أن الحديث ضعيف. والثاني: المراد به ألا يجعل السلف سلما في شيء آخر. فيكون معناه: النهي عن بيعه بشيء معين إلى أجل، وهو من جنس بيع الدين بالدين؛ ولهذا قال: (لا يصرفه إلى غيره) أي: لا يصرف المسلم فيه إلى مسلم فيه آخر. ومن اعتاض عنه بغيره قابضاً للعوض لم يكن قد جعله سلما في غيره. وبسط هذه المسائل لا يحتمله هذا الجواب. لكن الرخصة في هذا الباب ثابتة عن ابن عباس، وهي مذهب/ مالك. وأحمد رخص فيه أكثر من مالك. وما ذكره الخرقي وغيره، قد قيل: إنه رواية أخري، كما ذكره ابن أبـي موسي وغيره رواية عن أحمد. والصواب أن هذا جائز، لا دليل على تحريمه. واللّه أعلم. فأجاب: إذا أسلم في حنطة فاعتاض عنها شعيرًا ونحو ذلك. فهذه فيها قولان للعلماء: أحدهما: أنه لا يجوز الاعتياض عن السلم بغيره. كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه. والثاني: يجوز الاعتياض عنه في الجملة، إذا كان بسعر الوقت، أو أقل. وهذا هو المروي عن ابن عباس حيث جوز إذا أسلم في شيء أن يأخذ عوضًا بقيمته، ولا يربح مرتين. وهو الرواية الأخري عن أحمد، حيث يجوز أخذ الشعير عن الحنطة إذا لم يكن أغلي من / قيمة الحنطة. وقال بقول ابن عباس في ذلك. ومذهب مالك يجوز الاعتياض عن الطعام والعرض بعرض. والأولون احتجوا بما في السنن. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)، قالوا: وهذا يقتضي ألا يبيع دين السلم لا من صاحبه، ولا من غيره. والقول الثاني أصح، وهو قول ابن عباس، ولا يعرف له في الصحابة مخالف؛ وذلك لأن دين السلم دين ثابت، فجاز الاعتياض عنه كبدل القرض، وكالثمن في المبيع؛ ولأنه أحد العوضين في البيع فجاز الاعتياض عنه، كالعوض الآخر. وأما الحديث ففي إسناده نظر، وإن صح فالمراد به أنه لا يجعل دين السلم سلفًا في شيء آخر؛ ولهذا قال: (فلا يصرفه إلى غيره) أي: لا يصرفه إلى سلف آخر. وهذا لا يجوز؛ لأنه يتضمن الربح فيما لم يضمن، وكذلك إذا اعتاض عن ثمن المبيع والقرض، فإنما يعتاض عنه بسعره، كما في السنن عن ابن عمر أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نبيع الإبل بالنقيع بالذهب ونقبض الورق، ونبيع بالورق ونقبض الذهب. فقال: (لا بأس، إذا كان بسعر يومه إذا افترقتما وليس بينكما شيء) فيجوز الاعتياض بالسعر لئلا يربح فيما لم يضمن. فإن قيل: فدين السلم يتبع ذلك فنهى عن بيع ما لم يقبض. قيل: النهي إنما كان في الأعيان لا في الديون.
|